الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا}، يعني: خالصًا {فِيمَا تَرَكْتُ} في الدنيا.قال الله تعالى: {كَلاَّ}، وهو رد عليهم، يعني: أنه لا يرد إلى الدنيا.ثم قال: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}، يعني: مقولها ولا تنفعه.ثم قال: {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ}، يعني: من بعدهم القبر {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، أي والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة؛ ويقال: كل حاجز بين الشيئين.فهو برزخ؛ ويقال: هو بين النفختين؛ وقال قتادة: البرزخ بقية الدنيا؛ وقال الحسن: القبر بين الدنيا والآخرة.قوله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ في الصور}، يعني: النفخة الأخيرة، {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ}؛ يعني: لا ينفعهم {يَوْمَئِذٍ} النسبُ، {وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} عن ذلك.فهذه حالات لا يتساءلون في موضع، ويتساءلون في موضع آخر.{فَمَن ثَقُلَتْ موازينه}، يعني: رجحت حسناته على سيئاته، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون}؛ يعني: الناجون من الآخرة، {وَمَنْ خَفَّتْ موازينه}؛ يعني: رجحت سيئاته على حسناته، {فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ خالدون تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار}؛ يعني: تنفح.قال أهل اللغة: النفح واللفح بمعنى واحد، إلا أن اللفح أشد تأثيرًا وهو الدفع، يعني: تضرب وجوههم النار.{وَهُمْ فِيهَا}، يعني: في النار، {كالحون}؛ يعني: كلحت وعبست وجوههم، والكالح الذي قد قلصت شفتاه عن أسنانه، ونحو ما تُرى من رؤوس الغنم مشوية إذا بدت الأسنان، يعني: كلحت وجوههم فلم تلتق شفاههم.وقال ابن مسعود: كالرأس النضوج.ثم قال: {أَلَمْ تَكُنْ}، يعني: يقال لهم: ألم تكن {تتلى عَلَيْكُمْ فاستكبرتم}، يعني: ألم يكن يقرأ عليكم القرآن فيه بيان هذا اليوم، وما هو كائن فيه؟ {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ}، يعني: بالآيات.قوله عز وجل: {قَالُواْ}، يعني: إن الكفار قالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}، التي كتبت علينا والتي قدرت علينا في اللوح المحفوظ.{وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ} عن الهدى.قرأ حمزة والكسائي {شقاوتنا} بنصب الشين والألف، وقرأ الباقون {عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} بكسر الشين وسكون القاف بغير ألف.وروي عن ابن مسعود {شقاوتنا} و{عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} ومعناهما قريب.{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا}، يعني: من النار، {فَإِنْ عُدْنَا} إلى الكفر والتكذيب، {فَإِنَّا ظالمون قَالَ}، أي فحينئذٍ يقول الله تعالى: {اخسئوا فِيهَا}، يعني: اصغروا فيها واسكتوا، أي كونوا صاغرين.{وَلاَ تُكَلّمُونِ}، أي ولا تكلمون بعد ذلك.قال أبو الليث رحمه الله: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو حفص، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل النار يدعون مالكًا، فلا يجيبهم أربعين عامًا، ثم يرد عليهم: إنكم ماكثون. ثم يدعون ربهم: ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا فإنا ظالمون. فلا يجيبهم مقدار ما كانت الدنيا مرتين، ثم يجيبهم: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ}، فوالله ما نبت بعد هذا بكلمة إلا الزفير والشهيق.وروي عن ابن عباس أنه قال: لما قال الله تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ}، فإنما بقت أفواههم وانكسرت ألسنتهم، فمن الأجواف يعوون عواء الكلب؛ ويقال: {اخسئوا} أي تباعدوا تباعد سخط. يقال: خسأت الكلب، إذا زجرته ليتباعد.ثم بيّن لهم السبب الذي استحقوا تلك العقوبة به، فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ} وهم المؤمنون: {رَبَّنَا ءامَنَّا}، أي صدقنا، {فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين}.قوله عز وجل: {فاتخذتموهم سِخْرِيًّا}، يعني: هزوًا، {حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى}؛ يعني: أنساكم الهزء بهم العمل بطاعتي، {وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} في الدنيا.قرأ عاصم، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو {سِخْرِيًّا} بكسر السين، وكذلك في سورة ص، وكانوا يقرؤون في الزخرف بالرفع، قالوا: لأن في هذين الموضعين من الاستهزاء.وهناك في الزخرف من السخرة والعبودية، فما كان من الاستهزاء فهو بالكسر، وما كان من التسخير فهو بالضم.وقرأ حمزة والكسائي ونافع {سِخْرِيًّا} كل ذلك بالضم؛ وقال أبو عبيد: هكذا نقرأ، لأنهن يرجعن إلى معنى واحد، وهما لغتان سِخْرِيٌّ وسُخْرِيّ؛ وذكر عن الخليل، وعن سيبويه أن كليهما واحد.قوله عز وجل: {إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ}، يعني: جعلت جزاءهم الجنة وهم المؤمنون بما صبروا، يعني: بصبرهم على الأذى وعلى أمر الله تعالى.{أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون}، يعني: الناجون.قرأ حمزة والكسائي {أَنَّهُمْ} بكسر الألف على معنى الابتداء، والمعنى إني جزيتهم.ثم أخبر فقال: إنهم هم الفائزون، وقال أبو عبيد، وقرأ الباقون {أَنَّهُمْ} بالنصب أَنِّي جزيتهم لأنهم هم الفائزون؛ وقال أبو عبيد: الكسر أحب إلى على ابتداء المدح من الله تعالى.قوله عز وجل: {قال كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرض عَدَدَ سِنِينَ}، يعني: في القبر؛ ويقال: في الدنيا.ويروى عن ابن عباس في بعض الروايات أنه قال: لا أدري في الأرض أم في القبر؟ وقال مقاتل: {كَمْ لَبِثْتُمْ} فِي القبر عدد سنين.{قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين}، قال الأعمش: يعني: الحافظين؛ وقال مقاتل: يعني: ملك الموت وأعوانه، وقال قتادة: يعني: فاسأل الحسَّاب؛ وقال مجاهد: يعني: الملائكة عليهم السلام وهكذا قال السدي.{قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ} في القبر أو في الدنيا، {إِلاَّ قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، يعني: لو كنتم تصدقون أنبيائي عليهم السلام في الدنيا، لعرفتم أنكم ما مكثتم في القبور إلا قليلًا.قرأ حمزة والكسائي وابن كثير: {قال كَمْ لَبِثْتُمْ} على معنى الأمر، وكذلك قوله: {قُلْ إِنْ لَّبِثْتُمْ}، وقرأ الباقون: {قَالَ} بالألف، وقرأ حمزة والكسائي: {فَاسْأَلِ العادين} بغير همز، وقرأ الباقون: {فَاسْأَلِ} بالهمزة.ثم قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثًا}، أي لعبًا وباطلًا لغير شيء، يعني: أظننتم أنكم لا تعذبون بما فعلتم؟ {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} بعد الموت.قرأ حمزة والكسائي: {لاَ تُرْجَعُونَ} بنصب التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون بضم التاء ونصب الجيم، وكذلك التي في القصص قالوا: لأنها من مرجع الآخرة، وما كان من مرجع الدنيا، فقد اتفقوا في فتحه، مثل قوله: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50].قال أبو عبيد: وبالفتح نقرأ، لأنهم اتفقوا في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناهآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]، وقال إنهم لاَ يرجعون وَقال: {والذين يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون} [المؤمنون: 60]، كقوله: {الذين إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ قالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ راجعون} [البقرة: 156]، فأضاف الفعل إليهم.ثم قال عز وجل: {فتعالى الله الملك الحق}، يقول: ارتفع وتعظم من أن يكون خلق شيئًا عبثًا، وإنما خلق لأمر كائن.ثم وحد نفسه، فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم}، يعني: السرير الحسن.قوله عز وجل: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}، يقول: لا حجة له بالكفر ولا عذر يوم القيامة.{فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ} في الآخرة، يعني: عذابه.{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون}، يعني: لا يأمن الكافرون من عذابه؛ ويقال: معناه جزاء كل كافر أنه لا يفلح الكافرون في الآخرة عند ربهم.قوله عز وجل: {وَقُل رَّبّ اغفر وارحم}، يعني: تجاوز عني.{وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين}، يعني: من الأبوين؛ وهذا قول الحسن، ويقال: من غيرك؛ ويقال: إنما حسابه عند ربه فيجازيه، كما قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] {وَقُل رَّبّ اغفر وارحم} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستغفر للمؤمنين، ويسأل لهم المغفرة؛ ويقال: أمره بأن يستغفر لنفسه، ليعلم غيره أنه محتاج إلى الاستغفار.كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنِّي أسْتَغْفِرُ الله رَبِّي وَأَتُوبُ إلَى الله فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً، أَوْ قالَ مِائَةَ مَرَّةٍ» والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.
|